الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكان إسلام عمر بعد إسلام حمزة- رضي الله عنهما- بثلاثة أيام، كما ثبت ذلك في حاشية شرح العقائد عن فوائد تمام الرازي، وصفوة الصفوة لابن الجوزي؛ قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ قال: قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه، قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه.واتبعه عمر- رضي الله عنهم- واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! وهم في أنديتهم حول الكعبة.ألا! إن ابن الخطاب قد صبأ قال: يقول عمر- رضي الله عنهم- من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على روؤسهم قال: وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها أو تركتموها لنا، قال: فبينما هو على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرًا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم؟ هكذا عن الرجل! قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبًا كشط عنه.وفي الروض الأنف للامام أبي القاسم السهيلي أن يونس روى عن ابن إسحاق أن عمر قال حين أسلم- رضي الله عنهم-:
إذا تقرر هذا، علم أن المقصود من السورة- كما تقدم- تشريف هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بإعلامه بالرفق بأمته، والإقبال بقلوبهم حتى يملؤوا الأرض كثرة، كما أنزل عليهم السكينة وهم في غاية الضعف والقلة، وحماهم ممن يريد قتلهم، ولين قلب عمر- رضي الله عنهم- بعد ما كان فيه من الغلظة وجعله وزيرًا، ثم حماه بعدوه، وتأمينه صلى الله عليه وسلم من أن يستأصلوا بعذاب، وبأنه يموت نبيهم قبلهم لا كما وقع للمهلكين من قوم نوح وهود عليهما السلام ومن بعدهم- بما دل عليه افتتاح هذه بنفي الشقاء وختم تلك بجعل الود وغير ذلك، والداعي إلى هذا التأمين أنه سبحانه لما ختم تلك بإهلاك القرون وإبادة الأمم بعد إنذار القوم اللد، ولم يختم سورة من السور الماضية بمثل ذلك، كان ربما أفهم أنه قد انقضت مدتهم، وحل بوارهم، وأتى دمارهم، وأنه لا يؤمن منهم- لما هم فيه من اللد- إلا من قد آمن، فحصل بذلك من الغم والحزن ما لا يعلم قدره إلا الله، لأن الأمر كان في ابتدائه، ولم يسلم منهم إلا نفر يسير جدًا، فسكن سبحانه الروع بقوله: {ما أنزلنا} بعظمتنا {عليك} أي وأنت أعلم الخلق {القرآن} أي أعظم الكتب، الجامع لكل خير، والدافع لكل ضير، الذي يسرناه بلسانك {لتشقى} أي بتعب قلبك بكونك من أقل المرسلين تابعًا بعد استئصال قومك وشقائهم بإنذارك {إلا} أي لكن أنزلناه {تذكرة} أي تذكيرًا عظيمًا {لمن يخشى} ممن أشرنا في آخر التي قبلها إلى بشارته إيماء إلى أنه سيكون فيهم من المتقين من تناسب كثرته إعجاز هذا القرآن ودوامه، وما فيه من الجمع المشار إليه بالتعبير بالقرآن لجميع ما في الكتب السالفة من الأحكام أصولًا وفروعًا، والمواعظ والرقائق، والمعارف والآداب، وأخبار الأولين والآخرين، ومصالح الدارين، وزيادته عليها بما شاء الله، لأن كثرة الأمة على قدر جلالة الكتاب، والتعبير عن لكن بالإشارة إلى أنه يمكن أن يكون من باب: وأشار بالمصدر الجاري على غير الفعل في قوله: {تنزيلًا} إلى أنه يتمهل عليهم ترفقًا بهم، ولا ينزل هذا القرآن إلا تدريجًا، إزالة لشبههم، وشرحًا لصدورهم، وتسكينًا لنفوسهم، ومدًا لمدة البركة فيهم بتردد الملائكة الكرام إليهم، كما أنه لم يهلكهم بمعاصيهم اكتفاء ببينة ما في الصحف الأولى، بل أرسل إليهم رسولًا لئلا يقولوا: ربنا لولا- كما اقتضته حكمته وتمت به كلمته، ولما كان رجوعهم إلى الدين على ما يشاهد منهم من الشدة والأنفة والشماخة التي سماهم الله بها قومًا لدًّا في غاية البعد، شرع سبحانه يذكر بقدرته إشارة إلى أن القلوب بيده يقلبها كيف شاء كما صورها كيف شاء، وأن شأنه الرفق والأناة، فقال ملتفتًا من التكلم إلى الغيبة ليدل على ما اقتضته النون من العظمة مقدمًا ما اقتضى الحال تقديمه من سكن المدعوين المعتنى بتذكرتهم وهداية أريد منهم: {ممن خلق الأرض} المنخفضة.ولما قدم الأرض إعلامًا بالاعتناء برحمها بالترفق بسكانها ليملأها بالإيمان منهم تحقيقًا لمقصود السورة تشريفًا للمنزل عليه، أتبعها محل الإنزال على سبيل الترقي من بيت العزة إلى ما كنزه في خزانة العرش فقال: {والسماوات العلى} في ستة أيام، ولو شاء كانتا في لحظة.ولما كان القادر قد لايكون ملكًا، قال دالًا على ملكه مادحًا له بالقطع خبرًا لمبتدأ محذوف: {الرحمن} مفتتحًا بالوصف المفيض للنعم العامة للطائع والعاصي؛ ثم ذكر خبرًا ثانيًا دالًا على عموم الرحمة فقال: {على العرش} الحاوي لذلك كله {استوى} أي أخذ في تدبير ذلك منفردًا، فخاطب العباد بما يفهمونه من قولهم: فلان استوى، أي جلس معتدلًا على سرير الملك، فانفرد بتدبيره وإن لم يكن هناك سرير ولا كون عليه أصلًا، هذا روح هذه العبارة، كما أن روح قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء» أنه سبحانه وتعالى عظيم القدرة على ذلك، وهو عليه يسير خفيف كخفته على من هذا الحالة، وليس المراد أن هناك إصبعًا أصلًا- نبه على ذلك حجة الإسلام الغزالي، ومنه أخذ الزمخشري أن يد فلان مبسوطة كناية عن جواد وإن لم يكن هناك بد ولا بسط أصلًا.ولما كان الملك قد لا يكون مالكًا، قال مقدمًا الأشرف على العادة: {له ما في السماوات} أي كله من عاقل وغيره {وما في الأرض} جميعه {وما بينهما} أي السماوات والأرض {وما تحت الثرى} وهو التراب النديّ، سواء قلنا: إنه آخر العالم فما تحته العدم المحض أم لا؟ فبكون تحته النور أو الحوت أو غيرهما. اهـ.
وقد تكلم الناس على هذا القول من وجهين: الأول: أنه بمعنى يا رجل في اللغة حمل عليه لكنه لا يجوز إن ثبت على هذا المعنى إلا في لغة العرب إذ القرآن بهذه اللغة نزل فيحتمل أن تكون لغة العرب في هذه اللفظة موافقة لسائر اللغات التي حكيناها، فأما على غير هذا الوجه فلا يحتمل ولا يصح.الثاني: قال صاحب الكشاف: إن كان طه في لغة عك بمعنى يا رجل فلعلهم تصرفوا في يا هذا فقلبوا الياء طاء فقالوا: طا واختصروا في هذا واقتصروا على ها فقوله طه بمعنى يا هذا واعترض بعضهم عليه وقالوا: لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طا ها.وثانيهما: أنه عليه السلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معًا وكان الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قالوا هياك في إياك وهرقت في أرقت ويجوز أن يكون الأصل من وطىء على ترك الهمزة فيكون أصله طأ يا رجل ثم أثبت الهاء فيها للوقف والوجهان ذكرهما الزجاج، أما قوله تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْءَانَ لتشقى} ففيه مسائل:المسألة الأولى:قال صاحب الكشاف: إن جعلت طه تعديدًا لأسماء الحروف فهذا ابتداء كلام وإن جعلتها اسمًا للسورة احتمل أن يكون قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} خبرًا عنها وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جوابًا لها وهي قسم.المسألة الثانية:قرئ {مَّا نَزَّلَ عَلَيْكَ القرءان لتشقى}.المسألة الثالثة:ذكروا في سبب نزول الآية وجوهًا: أحدها: قال مقاتل إن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال عليه السلام: «بل بعثت رحمة للعالمين» قالوا: بل أنت تشقى فأنزل الله تعالى هذه الآية ردًا عليهم وتعريفًا لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن دين الإسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.وثانيها: أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام: «أبق على نفسك فإن لها عليك حقًا» أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وروي أيضًا أنه عليه السلام: «كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام» وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة، وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله: {لتشقى} ذلك، قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئًا من ذلك فلابد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى، وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له: ما أمرناك بذلك.وثالثها: قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] الآية، {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65].
|